آفات القراءة لعالم واحد
أبو مالك العوضي
مقالات متعلقة
طالبُ العلم - عادةً - لا يكتفي بالقراءة لعالم واحد، ولا لأهل عصر واحد، ولكنَّ بعض طلبة العلم أحيانًا يَقْصُر نفْسَه - بعدَ تحصيل أوَّليات العلم ومبادئِه - على أحد العلماء، فلا يكاد يخرج عما صنَّفه، ولا ينقل طرْفَه عما ألَّفه، ولا يصرف بصرَه عما سطره!
ومن المعقول والمتوقَّعِ إزاءَ هذه المعضِلَة أنَّ ذلك لا يَحصل إلا مع الأئمة الكبار المتفننين، أو مَن قاربهم في هذه المنْزلة؛ مِن أمثال الباقلاني، وابن حزم، وابن تيميَّة، وابن القيِّم، وابن حجر، ونحوهم.
وقد تَخِفُّ المعضلة قليلاً، فتجد هذا الطالبَ لا يقرأ إلا للمعاصرين فقط، وتجد غيره لا يكاد يقرأ إلا لأهل الصدر الأول فقط، أو للمتأخِّرين فقط، والمعضلة متحقِّقةٌ هاهنا أيضًا، وإن كانت أخفَّ من سابقتها.
وهذه المعضلة لها آفاتٌ كبيرة جدًّا على طالب العلم؛ بل تكاد تَكُون أعظمَ الآفات التي قد تصيب مَن انتسب لهذه المحجَّة الواضحة، والسبيل اللاحِب، ألاَ وهو طلب العلم.
قصور النظر:
مِن هذه الآفات قصور النظر، وأحيانًا يقال عنه بلغة المعاصرين: (ضيق الأفق)، أو بلغة بعض القدماء: ضيق العطن، أو ضعف الاطلاع، أو قلة الباع، ونحو ذلك من التعبيرات، وينبغي أن نفرِّق بين ضَعْف الاطِّلاع الذي يَعرف صاحبُه مِن نفسه أنه ضعيف الاطلاع؛ فهذا لا يَضرُّ غالبًا، وبين ضعف الاطلاع الذي يَظن صاحبُه أنه قد أحاط بكل شيء علمًا! فهذا هو ضيق الأفق المقصود هاهنا.
وسبب المشكلة هنا واضح؛ إذ إنَّ هذا الإنسان لا يكاد يعرف سوى كتُبِ هذا العالم، فإذا كان قد قرأ معظم ما فيها، فمِن البدهي أن يستشعر أنه قد صار محيطًا بمعظم أبواب العلم.
الجرأة والتسرع:
وهذه آفة أشد ضررًا من سابقتها، وهي - مع ذلك - نتيجةٌ مِن نتائجها؛ لأن ضيقَ الأفق إذا امتزج بقلة الاطلاع؛ يوحي لصاحبه بأنه أعقل أهل الأرض، وأعلم أهل الأرض، وأفقه أهل الأرض، ومن كان هكذا فلا جرم أن أحكامه وأقواله وآراءه - ستكون مبنيةً على هذا، فتجدها تتسم بالجرأة العظيمة، والتسرع الفاحش، مع أنه حتى العاقل الذي لم يحصِّل قدرًا عظيمًا من العلم - يَعرف أنه ينبغي أن يتروَّى في أحكامه، لا سيما مع أناس يسبقونه بمئات السنين؛ إذ مِن المحتمَل جدًّا أن يكون فهمُه لكلامهم قاصرًا؛ لبُعد الشُّقَّة، وطُول الزمن، ومِن المحتمل جدًّا أن يكونوا وضَّحوا مرادَهم الذي لم يَفهمه في موضع آخر، ومن المحتمل جدًّا أن يكون التحريفُ قد أصاب الكلام مع تطاول الأعصار، والنَّسْخ من المنسوخ، ومن المحتمل جدًّا أن يكون للكلام وجهٌ يعرفه أقرانُ المؤلف أو تلاميذه أو حتى شيوخه.
سوء الأدب:
وهذه الآفة ناتجة أيضًا من سابقتيها؛ لأن الجهل وضيق الأفق يوحيان له بأن سوء الأدب ما هو إلا دفاع عن الدين! وأن الشتم والسَّبَّ ليسا إلا وقوفًا في وجه المناوئين! وأن الألفاظ البذيئة والإكثار من الطعن ما هما إلا من الجهاد في سبيل الله باللسان!
التقليد:
وهذه آفة مضحكة جدًّا؛ لأن صاحبها يزعم أنه مجتهِدُ الأرضِ الأوحدُ، مع أنه غارق حتى أذنيه في التقليد؛ إذ هو لا يَخرج فيما يقول عن منهج الرجل الذي لا يقرأ إلا له؛ بل لا يكاد يخرج عن أقواله مع زعْمِه الاجتهادَ، وإنْ خطَّأه ففي مسألة نادرة قُدِّر له فيها أن يطلع على قول آخر لغير هذا العالِم!
احتقار العلماء والإزراء عليهم:
وهذه آفة واضحة السبب؛ إذ إنه لا يكاد يَعرف أنَّ هناك قرناءَ لذاك العالِم الذي يقرأ له، فيحسبه أعلم أهل الأرض، ولا نظير له في الأولين والآخرين؛ لأنَّ عينَ الرِّضا عن كل عيب كليلة، فمِن ثَم يحمله ذلك على احتقار باقي العلماء، وعدم إنزالهم منازلهم.
سوء التقدير لمرتبة نفسه:
مِن العجائبِ - والعجائبُ جَمَّةٌ - أنَّ مَن يقرأ لعالم واحد كثيرًا يظن أنه قد وصل إلى درجة هذا العالم، فيحسب أنه لمجرد إكثاره من مطالعة كتبه قد صار مثله! وهذا جهل وحمق ليس له مثيل.
فترى الواحد من أتباع ابن حزْمٍ يحسب أنه قد صار ابنَ حزمِ هذا العصر!
وترى كثيرًا من طلبة العلم الذين يُدمنون مطالعة كلام شيخ الإسلام، يحسب الواحدُ منهم أنه قد صار كشيخ الإسلام!
وترى، وترى...
فماذا ترى - يا من ترى - فيما ترى؟!
تاريخ الإضافة: 8/8/2010 ميلادي - 27/8/1431 هجري زيارة: 138
أبو مالك العوضي
طالبُ العلم - عادةً - لا يكتفي بالقراءة لعالم واحد، ولا لأهل عصر واحد، ولكنَّ بعض طلبة العلم أحيانًا يَقْصُر نفْسَه - بعدَ تحصيل أوَّليات العلم ومبادئِه - على أحد العلماء، فلا يكاد يخرج عما صنَّفه، ولا ينقل طرْفَه عما ألَّفه، ولا يصرف بصرَه عما سطره!
ومن المعقول والمتوقَّعِ إزاءَ هذه المعضِلَة أنَّ ذلك لا يَحصل إلا مع الأئمة الكبار المتفننين، أو مَن قاربهم في هذه المنْزلة؛ مِن أمثال الباقلاني، وابن حزم، وابن تيميَّة، وابن القيِّم، وابن حجر، ونحوهم.
وقد تَخِفُّ المعضلة قليلاً، فتجد هذا الطالبَ لا يقرأ إلا للمعاصرين فقط، وتجد غيره لا يكاد يقرأ إلا لأهل الصدر الأول فقط، أو للمتأخِّرين فقط، والمعضلة متحقِّقةٌ هاهنا أيضًا، وإن كانت أخفَّ من سابقتها.
وهذه المعضلة لها آفاتٌ كبيرة جدًّا على طالب العلم؛ بل تكاد تَكُون أعظمَ الآفات التي قد تصيب مَن انتسب لهذه المحجَّة الواضحة، والسبيل اللاحِب، ألاَ وهو طلب العلم.
قصور النظر:
مِن هذه الآفات قصور النظر، وأحيانًا يقال عنه بلغة المعاصرين: (ضيق الأفق)، أو بلغة بعض القدماء: ضيق العطن، أو ضعف الاطلاع، أو قلة الباع، ونحو ذلك من التعبيرات، وينبغي أن نفرِّق بين ضَعْف الاطِّلاع الذي يَعرف صاحبُه مِن نفسه أنه ضعيف الاطلاع؛ فهذا لا يَضرُّ غالبًا، وبين ضعف الاطلاع الذي يَظن صاحبُه أنه قد أحاط بكل شيء علمًا! فهذا هو ضيق الأفق المقصود هاهنا.
وسبب المشكلة هنا واضح؛ إذ إنَّ هذا الإنسان لا يكاد يعرف سوى كتُبِ هذا العالم، فإذا كان قد قرأ معظم ما فيها، فمِن البدهي أن يستشعر أنه قد صار محيطًا بمعظم أبواب العلم.
الجرأة والتسرع:
وهذه آفة أشد ضررًا من سابقتها، وهي - مع ذلك - نتيجةٌ مِن نتائجها؛ لأن ضيقَ الأفق إذا امتزج بقلة الاطلاع؛ يوحي لصاحبه بأنه أعقل أهل الأرض، وأعلم أهل الأرض، وأفقه أهل الأرض، ومن كان هكذا فلا جرم أن أحكامه وأقواله وآراءه - ستكون مبنيةً على هذا، فتجدها تتسم بالجرأة العظيمة، والتسرع الفاحش، مع أنه حتى العاقل الذي لم يحصِّل قدرًا عظيمًا من العلم - يَعرف أنه ينبغي أن يتروَّى في أحكامه، لا سيما مع أناس يسبقونه بمئات السنين؛ إذ مِن المحتمَل جدًّا أن يكون فهمُه لكلامهم قاصرًا؛ لبُعد الشُّقَّة، وطُول الزمن، ومِن المحتمل جدًّا أن يكونوا وضَّحوا مرادَهم الذي لم يَفهمه في موضع آخر، ومن المحتمل جدًّا أن يكون التحريفُ قد أصاب الكلام مع تطاول الأعصار، والنَّسْخ من المنسوخ، ومن المحتمل جدًّا أن يكون للكلام وجهٌ يعرفه أقرانُ المؤلف أو تلاميذه أو حتى شيوخه.
سوء الأدب:
وهذه الآفة ناتجة أيضًا من سابقتيها؛ لأن الجهل وضيق الأفق يوحيان له بأن سوء الأدب ما هو إلا دفاع عن الدين! وأن الشتم والسَّبَّ ليسا إلا وقوفًا في وجه المناوئين! وأن الألفاظ البذيئة والإكثار من الطعن ما هما إلا من الجهاد في سبيل الله باللسان!
التقليد:
وهذه آفة مضحكة جدًّا؛ لأن صاحبها يزعم أنه مجتهِدُ الأرضِ الأوحدُ، مع أنه غارق حتى أذنيه في التقليد؛ إذ هو لا يَخرج فيما يقول عن منهج الرجل الذي لا يقرأ إلا له؛ بل لا يكاد يخرج عن أقواله مع زعْمِه الاجتهادَ، وإنْ خطَّأه ففي مسألة نادرة قُدِّر له فيها أن يطلع على قول آخر لغير هذا العالِم!
احتقار العلماء والإزراء عليهم:
وهذه آفة واضحة السبب؛ إذ إنه لا يكاد يَعرف أنَّ هناك قرناءَ لذاك العالِم الذي يقرأ له، فيحسبه أعلم أهل الأرض، ولا نظير له في الأولين والآخرين؛ لأنَّ عينَ الرِّضا عن كل عيب كليلة، فمِن ثَم يحمله ذلك على احتقار باقي العلماء، وعدم إنزالهم منازلهم.
سوء التقدير لمرتبة نفسه:
مِن العجائبِ - والعجائبُ جَمَّةٌ - أنَّ مَن يقرأ لعالم واحد كثيرًا يظن أنه قد وصل إلى درجة هذا العالم، فيحسب أنه لمجرد إكثاره من مطالعة كتبه قد صار مثله! وهذا جهل وحمق ليس له مثيل.
فترى الواحد من أتباع ابن حزْمٍ يحسب أنه قد صار ابنَ حزمِ هذا العصر!
وترى كثيرًا من طلبة العلم الذين يُدمنون مطالعة كلام شيخ الإسلام، يحسب الواحدُ منهم أنه قد صار كشيخ الإسلام!
وترى، وترى...
فماذا ترى - يا من ترى - فيما ترى؟!
تاريخ الإضافة: 8/8/2010 ميلادي - 27/8/1431 هجري زيارة: 138
الإثنين ديسمبر 01, 2014 4:10 am من طرف heba suleiman
» ماجستير إدارة العلاقات العامة المهني المصغر 1 – 10 مارس 2014 م - كوالالمبور - ماليزيا
الأحد ديسمبر 29, 2013 5:42 am من طرف heba suleiman
» فوائــــــــــــــــد الشاي الاخضـــــــــــــــر
الثلاثاء مارس 01, 2011 12:07 pm من طرف ابن السنة
» علاج سرعة القذف ، القذف المبكر ، القذف السريع
الثلاثاء مارس 01, 2011 11:36 am من طرف ابن السنة
» أختي المسلمة :
الخميس فبراير 17, 2011 9:40 am من طرف huda
» الشكـــــــر
الثلاثاء فبراير 15, 2011 12:22 pm من طرف huda
» يارب اصلح نياتنا وسرائرنا
الثلاثاء فبراير 15, 2011 12:17 pm من طرف huda
» أخــــــــــتاه لماذا تبكين؟
الثلاثاء فبراير 15, 2011 9:28 am من طرف huda
» زلـــة لســـــآن ..تفقـــدك إنســــآن
الثلاثاء فبراير 15, 2011 9:20 am من طرف huda